خواطر من وحي النزوح
بــدأت بـحــمـــد
اللــــه ثــــم صـلاتــنـا عــــلي
فـــاتح الإيجــاد خـــاتــم رســلنا
وآل وأصٌـحـاب ومـــن
بـهـم إقــتـدا مـــن الـســـادة
الــبـدلاء عــنــهـــم لهـــديـنا
وبـعــد فــيــا
اللـــه أمـــنـنَ بــقـــربتي إلـــيـك
بحـقِّ جـمــيـع أسـمائك الحـسنى
وأقبــل دعـانا يــا
إلـهي بـجـاهـها فـإنــــا
بــــهـا أبــــــداً إليـــــك تـــــــوســـلنا
في البدء أحمد الله سبحانه
وتعالي حمداً كثيراً متتالياً ومتواصلاً، وأُصلي من بعده علي خاتم الأنبياء
والمرسلين عدد ماصلي ذاكراً أو نسي غافلاً، وبعد، في بداية وصولنا من الخرطوم في
أبريل 2023 إلي بلدنا في قرية الكرفاب بالولاية الشمالية بمحلية مروي بسبب الحرب،
كنت مستلقياً في عصر أحد الأيام وأستمع إلي المادح (خالد الصحافة) بجهاز الهاتف
الذكي فكانت الأبيات الشعرية الجميلة أعلاه والتي بدأت بها هذه التوطئة من قصيدة
للأستاذ السيد العجيمي رضي
الله عنه، بعدها إستمعت إلي (مدحة التمساح) وهي من روائع المادح المتفرد (حاج
الماحي) رحمه الله التي يقول فيها :
يا الخلفا الحالكم
مرضيه
يا اهل البيعه
العقدوا النيه
التمساح سكن الشايقيه
خلو اليروح نسيا
منسيا
تلك القصيدة الرائعة التي ذكر
فيها المادح (حاج الماحي) عدداً كبيراً من الشيوخ، وقد صدق البروفيسور عبد الله
الطيب حينما تحدث عن أولاد حاج الماحي :
(وليس
كأولاد حاج الماحي حين ينقرون طارهم من مادح ولا كمديح حاج الماحي من مديح)[1]
وإستمعت كذلك إلي قصيدة (شوقك
شوي الضمير) والتي يقول فيها:
شوقك شوي الضمير اطراك
مناي اطير
انا احبه من صغير
بريدك يالبشير
بسم الله يــا
قديـــر يا عــالي يا كبيـــر
يا جابر الكسير دبرنا
يا بصيــــر
بي أحسن التدبير من
فضلك الكثير
جود يا كريم بي الخير
أنصرنا يا نصير
هذه القصيدة التي ذكر فيها
الشيخ (حاج الماحي) أسماء العديد من القري، وهي عبارة عن سياحة جميلة تنقلك حول
القري وتشدك للتعرف علي هذه القري.
مدخلي، إضافة إلي جزئية قصيدة
الأستاذ العجيمي وجزئيات من مدائح حاج الماحي آثرت أن تكون جزئية من رواية(من
نافذة القطار) للبروفيسور عبد الله الطيب[2]
والتي جاء فيها:
(إن
إبن آدم لحريص علي الحياة، ضنين بها، صبور عليها، جزوع من غيبها، ليس جهد البلاء
عنده غير الموت. فالفقر المدقع دواؤه الصبر، والكدح المضني، والرضاء بالقليل والتحسر
علي ما فات، والحسد لمن نال. والمرض المزمن دواؤه الأمل، والعزاء منه الدمع
والحزن، وهو بعد خير من موت يقطع الأسباب، ويجعل بين المرء ودنياه التراب. لا شيئ
أفظع من الموت، ولا شيئ أحب من الحياة. ولا حب للملذات من مال ونساء وصحة وعافية
وتسلط ورفعة وجاه، وغزارة علم، وتمتع بصديق صالح في بلد صالح لولا أن الحياة لا
تتم إلا بهذه الأشياء. ولولا أن الحياة هي وجود في الدنيا ليس غير، عزيزة علي إبن
آدم، ما كنت لتري آلافاً من هذه السائمة البشرية يغدون ويروحون ولا يدرون إلي أين
يسافرون)إنتهي.
لم يكن لي من عمل، وآلام القضروف
تراوح مكانها، وليس معها من مجهود، فكانت الفكرة في البدء أن أكتب عن المساجد
وأُضيف مادة عن مساجد المنطقة، وبالفعل إنتهيت من الجزء الأول من الكتاب وهو
(أدبيات) عن المساجد وبدايتها ووظائفها وأهميتها وآدابها
وفضل بنائها مستعيناً ببعض الكتب والمراجع، وتبقي لي الجزء الثاني وهو معلومات عن
مساجد المنطقة الأمر الذي يحتاج إلي زيارة كافة القري للتوثيق لهذه المساجد، وأنا
أفكر في كيفية إنجاز هذا العمل الذي يحتاج إلي مجهود مالي كبير وجيبي (كفؤاد أم
موسي) فكيف العمل؟.
كانت فكرة السياحة ومعرفة قري
المنطقة تراودني كثيراً منذ زمن بعيد، والآن جاء الإصرار والعزم علي تنفيذ الفكرة،
خاصة وفي مخيلتي أن المنطقة توجد بها ذخيرة كبيرة من الموروثات الفكرية والثقافية
والدينية والسياحية والإجتماعية علاوة علي تميزها بطبيعة وتفرد وتشابه في الموقع
والتكوين، لكن الأمر الصعب هو البحث عن طريقة جديدة تختلف عن الطرق التي قام بها
من سبقوني في تنفيذ البحوث عن المنطقة، إلا أن تنفيذ الفكرة يحتاج إلي قرارات صعبة
كان أولها التخلص من جهاز الهاتف الجوال (الموبايل) نهائياً، وثانيها مقاطعة جلسات (الونسة)، برغم ما لهذين
القرارين من صعوبة وعواقب وخيمة إلا أنني عزمت علي تنفيذهما والإنقطاع تماماً
لتنفيذ المشروع والذي أسميته:(خطة تنفيذ أربعة كتب). بالنسبة لمقاطعة جهاز الهاتف
الذكي فحينما تراودني نفسي كنت أقول لها:
(يساهرون
الليالي، ويرهقون أبصارهم وصحتهم، ويصرفون أموالهم، ويهدرون أوقاتهم ويأتون صباحاً
في حلقات ويحكون ما شاهدوه أو قرأوه أو سمعوه عن البرهان وحميدتي والجيش والخرطوم
وحسن إسماعيل والحدث والجزيرة وينقلون عن الآخرين سواء كان أكاذيب أو حقائق، فلِمَ
أرهق نفسي وهم يجلبون لي هذه الأشياء).
أما الإنقطاع عن جلسات الونسة
فعندما تراودني نفسي أقول لها:
(لقد
إرتبطت "الونسة" بالمثلث الخطير الذي يتكون من أضلاع ثلاثة قاتلة وهي
"الغيبة" و"النميمة" و"الكذب"، ورغم قضاء الساعات
الطوال في جلسات الونسة إلا أنها في نهاية الأمر لا تخرج بفائدة أو نفع للأشخاص أو
مجتمعهم، كذلك لا توجد علي الإطلاق جلسة ونسة اُريد بها وجه الله، حيث أن الكثير
من جلسات الونسة منذ البدء إلي الإنتهاء لا يذكر فيها إسم الله).
جاء في كتاب روضة العقلاء
ونزهة الفضلاء للإمام أبي حاتم محمد بن حبان البستي[3] ما
روي عن علي بن سعيد بن جرير أنه سمع أحمد بن حنبل يقول:اُخبرت عن مالك بن دينار
أنه قال:مررت براهب في صومعته فناديته، فأشرف عليّ فكلمني وكلمته، فقال لي فيما
يقول:
(إذا إستطعت أن تجعل
فيما بينك وبين الدنيا حائطاً من حديد فأفعل، وإياك وكل جليس لا تستفيد منه خيراً
فلا تجالسه، قريباً كان أو بعيداً)
روي عن سيدنا عمر بن الخطاب
أنه قال[4]:
(خذوا بحظكم من العزلة)
بالرغم من أن جهاز الهاتف
الجوال (الموبايل) كان سبباً في فكرة السياحة والكتابة حيث أني كنت أستمع من خلاله
إلي المادح (خالد الصحافة) في روائع حاج الماحي، إلا أنني قررت أن أبدأ به، هنا
تذكرت قصة الرجل في الجاهلية عندما كان يحفر قبر إبنته وهي تمسح عنه العرق والغبار
ولا تدري أن القبر لها (إذا الموؤدة سئلت).
بحمد الله سبحانه وتعالي إنقطعت
عن الهاتف الجوال لمدة تزيد عن عشرة أشهر إذ لم أستخدم الهاتف الذكي في ما يسمي
بالإتصالات الحديثة، ولم أقرأ خبراً علي أيٍ من الوسائط المنتشرة، ولم أقرأ نصاً
كتبه أو أعاد نشره شخص، ولم أستمع إلي مقطع صوتي أنتجه أو حوله شخص، ولم أشاهد
مقطعاً للفيديو أنتجه أو نقله أو حوله شخص، ولم (أقل) لشخص عبر "واتساب"
ولم (يقل) لي شخص، ولم أرسل صورة أو كاريكاتير أو مقطع صوتي أو فيديو ولم أستلم من
أحد صورة أو كاريكاتير أو مقطع صوتي أو فيديو، ولم أساهر ليلة لأقرأ أو أشاهد أو
أستمع لما ينتجه شخص، ولم أستيقظ في أحد الأيام ويكون فاتحة يومي بإستخدام هذا
الهاتف الذكي، ولمدة عشرة أشهر أو أكثر ليس لي عضوية في مجموعةGroup
أياً
كانت، وفوق هذا فالمعلومات والأخبار المنشورة الصادق منها والكاذب علي علمٍ بالكثير
منها.
لقد وجدت عالماً آخر في تجربة
الإبتعاد عن الهاتف الذكي، وأنا في عالمي الآخر كلما يقابلتي شخص وهو في حالة
إستخدام لهذا الهاتف الذكي أحمد الله أنني لست في مكانه لأن الصورة التي أتخيلها وربما
أستشعرها في مثل هذا الشخص والتي إرتبطت بذهني تثير الإشمتزاز والإزدراء والسخرية
والإستصغار واللاإنسانية والتبعية والإنقياد والإستغلال والخواء الذهني وسرعة
الإنفعال والدهشة وعدم التريث والعدوانية وسوء الظن والكذب والبهتان والنميمة
والفسوق والرياء، وأن هذا الشخص أسيراً وسجيناً ومنفياً، وحتي في التحية يردها وبصره
مصوب نحو هذا الهاتف ولا تكاد أنامله تتوقف لحظة التحية.
وقد صدق الكذوب وتحقق حلمه، إذ جاء في البروتوكول
الثالث عشر لحكماء بني صهيون مايلي:
(يجب
أن نفقد الناس القدرة على التفكير السليم والتمييز ونشغلهم حتى نجعلهم يعتقدون أن الشائعات
حقائق ثابتة ونجعلهم غير قادرين على التمييز بين الوعود الممكن إنجازها والوعود
الكاذبة، ولا بد من تكوين هيئات ومنظمات وجمعيات يشتغل أعضاءها بإلغاء الخطب
الرنانة والمنشورات المؤثرة والبيانات المضللة ولابد أن تكون كل دور النشر بأيدينا
وتكون كل سجلات التعبير عن الفكر الإنسانى بأيدينا كما يجب أن نعمل لقطع الطريق أمام
إعلام حقيقي يعبر عن تيار حقيقى)
الإبتعاد عن عالم الهاتف
الذكي يعيد الشخص لوضعه الفطري فيستمتع بنعم الرحمن الكثيرة التي وهبها له والتي
سائله عنها يوم القيامة ماذا فعلت بها؟ وفيم سخرتها وإستخدمتها؟، بدءاً بالبصر
فالعين تقع علي كل شيئ في هذا الهاتف الذكي فلا تفرق بين هذا وذاك فتدخل الإنسان
في الإثم وهو لايدري علاوة علي التأثير في صحة البصر، وكذا باقي الحواس فالأنامل
التي تقوم بالكتابة أو الإعجاب أو التحويل وإعادة النشر أيضاً تؤدي إلي المهالك،
كذا إستخدام اللسان في الحديث في المراسلات الحية المباشرة أو المؤجلة "وهل
يُكَبُ الناس علي وجوههم إلا من حَصَدَة ألسنتهم[5]"،
أما سرعة إنفعال الإنسان ودهشته فإنها تؤثر كثيراً علي التفكير والذاكرة وتؤدي إلي الأمراض النفسية
الجسمية مثل قرحة المعدة وإرتفاع ضغط الدم، إضافة لتاثيرات الانفعالات علي
العلاقات بين الناس. هذا الهاتف يجعل الإنسان يسرف في نعم المال
والوقت والصحة في غير وجه صحيح فإذا كان هناك من يري تحريم التدخين كونه يهدر
المال ويؤثر علي الصحة فليس هناك فرق بينه وبين ذلك الهاتف في حال إستخدامه في غير
نفع وقلَّ من يستخدمه في نفع.
أخطر ما في الهاتف الذكي
الثالوث القاتل "الكذب والنميمة والغيبة"ومايتبعها من تداول القبيح من الأخبار
والصور والفتنة والتفريق بين الأزواج والإخوة والأهل والجيران والأصدقاء والزملاء،
ونقل الأكاذيب والإفتراءات عن
الناس، علاوة علي إهدار الوقت فيما ليس فيه نفع أو فائدة
للإنسان ومجتمعه ووطنه.
إستخدام الهاتف الذكي
والإعتماد عليه يجعل شِيَم نعمة العقل التعطل والتطفل والإئتدام من موائد العقول
الأخري بخيرها وشرها، وبذلك يفقد الإنسان الخيْرية والأفضلية التي إختصه بها
الكريم الوهاب عن سائر المخلوقات فيصير مثلها لا يميز بين الخبيث والطيب.
بحمد الله إستطعت تنظيم وقتي بصورة
جيدة وإستطعت أن أحتفظ لنفسي بأوقات أستراح فيها ذهني، وأعاد إليه الصفاء والنقاء.
أهم مافكرت فيه أولاً أن يكون للرحلات السياحية أهمية فى خريطة أوقاتي بأقل
التكاليف سواء الإرهاق الجسدي أو المالي، ثانياً أن تكون أكثر أوقات لقاءاتي
ومحادثاتي وتفاكراتي وأنسي مع أشخاص جُدد لم تكن لي معرفة بهم حتي لا أعيد مضغ
المألوف وحتي لا أكون كالحيوانات المجترة، وبحمد الله نجحت الخطة، فالجلوس مع
الجُدد يخرج كل طرف ما بجعبته من المفيد والصادق.
خطة
كتابة أربعة أسفار والسياحة والحركة في أكثر من مائة قرية علي ضفتي نهر النيل في
المنطقة يحتاج الي جهد كبير كادت معه الفكرة أن تذهب إلا أن العزيمة كانت أقوي من
الإستسلام والقعود وقتل الهمة، فكان القرار أن أبدأ بالتكلفة الصفرية (Zero-Cost). عدة مرات يوسوس لي الشيطان أن أترك هذا العمل لأن هناك تجارب
كثيرة فماذا ستجد وماذا ستضيف وكأن الوسواس يردد لي قول المتنبئ:
هل غادر الشعراء من
متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
إلا أنني عزمت وتوكلت علي
الله وقررت أن أبدأ بقريتنا الكرفاب ثم القري المجاورة وهي الأراك والبرصة والحجير
والبار واُم درق وجلاس وبالضفة الأخري من النيل في الباسا وأوسلي ومساوي والغريبة،
بعضاً راجلاً وأخري بالمراكب علي النيل وثالثة بالوسائل المحلية (الكارو)
و(التكتك) وكلها غير مكلفة لقصر المسافات وفي أغلب الأحيان بفضل الظهر نسال الله
أن يجزي أصحاب الفضل خير الجزاء والذين أطاعوا رسول الله فيما أمر:
(عن
أبي سعيد الخدري، قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، إذ جاء
رجل على ناقة له، فجعل يصرفها يميناً وشمالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من كان عنده فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد، فليعد به
على من لا زاد له، حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في الفضل»)[6]
بعد الكرفاب كانت الرحلة الثانية إلي قري البرصة
والبار واُم درق وجلاس والنافعاب والأركي والسلمي، وبحمد الله زرتها جميعاً راجلاً
من الكرفاب والتي قطعت فيها في تواصل مايقارب الخمسة عشر كيلوميتر. عدت من الرحلة
الثانية وفي جعبتي ذخيرة وافرة من المعلومات عن القري ومسمياتها والمساجد والخلاوي
والمشاهير من شعراء وعلماء وشيوخ ومعلومات عن المعالم الأثرية والطبيعية والدينية
علاوة علي بعض المأثورات من الروايات والحكاوي والقصص الطريفة الأمر الذي فتح
شهيتي ودعاني إلي التفكير في إعداد موسوعة لوحدها وفصلها عن كتاب (المساجد) خاصة
وأن المعلومات التي تحصلت عليها لا تتناسب مع العنوان (المساجد)، فقررت أن يكون
كتاب (المساجد) لوحده وإعداد كتاب آخر بعنوان:(الموسوعة التوثيقية لقري منطقة
منحني النيل مروي – الدبة)، حيث تغطي المعلومات القري ومسمياتها والمساجد والخلاوي والمشائخ والعموديات والطرق الصوفية والمؤسسات
التعليمية والأندية الرياضية علاوة علي المعالم الأثرية والتاريخية والطبيعية والمشاهير
والأعلام ومأثورات وأشعار ومدائح وروايات ومساجلات.